التنوير الزائف في العالم العربي- الأعور، الأحول، والأعمى
المؤلف: د. عمار علي حسن09.03.2025

في الساحة العربية، يزدحم المتزاحمون الذين يقدمون أنفسهم، للنخبة المثقفة وعامة الناس، كـ"تنويريين"، لكن التأمل العميق في خطاباتهم الشفوية والمكتوبة، أو التدقيق في أفعالهم وتصرفاتهم في الواقع اليومي، أو تتبع مسارات مصالحهم ومنافعهم الخفية، يكشف زيف ادعائهم، ويخرجهم من دائرة التنوير الحقيقي، إذا ما أخذنا التنوير بمعناه الإيجابي الساعي إلى النهضة والتقدم في كنف الحرية والعدالة والاكتفاء.
لم تخلُ الساحة العربية من أفراد يعملون بإخلاص وتفانٍ للارتقاء بمشاعر الناس وأفكارهم وظروفهم المعيشية، بيد أن أصواتهم خافتة، وتتلاشى في صخب الأيديولوجيات المتناحرة، والمصالح المتضاربة، والاستقطاب السياسي الحاد، والجدالات العقائدية البغيضة. وهكذا، يصبح ما ينتجونه من أفكار قيمة ومكتملة، هامشًا مهملًا في ثقافتنا المعاصرة، خاصة مع الضجيج المصاحب للمقاربات السطحية، والإسهامات العابرة، والاستعراضات البراقة، والإعلانات الفارغة، ونفايات الكلام.
لقد ارتفع الصوت، وأصبح الأكثر صخبًا، لثلاثة أنماط من "التنويريين": الأعور، والأحول، والأعمى. ومع ذلك، يصر هؤلاء على أن ما يقدمونه هو الآلية التي تصنع التقدم، من خلال تحرير العقول وإطلاقها لمواجهة ما يعتبرونه سائدًا ومتاحًا وراكدًا، يعيق حركة الحياة إلى الأمام، أو يبقيها، في أحسن الأحوال، جامدة في مكانها.
التنويري الأعور هو الذي يناهض الاستبداد باسم السلطة الدينية، ويتجنب مواجهته باسم السلطة السياسية. بل قد يتواطأ مع السلطة السياسية لمواجهة السلطة الدينية، أو يلتمس حماية السلطة السياسية من السلطة الدينية، ويتجاهل أي تجاوزات أو قمع يمارس ضد أتباع "الاستبداد الديني".
هذا التنويري لا يعي أنه تحول إلى أداة، بطريقة غير مباشرة، في يد من يظن أنه يواجههم، لأن السلطة السياسية، في أغلب الأحيان، هي التي تدعم من وراء الكواليس التخلف والاستبداد باسم الدين، مرة لترهيب المجتمع منه، فيلجأ إليها ويكبح مطالبته بالحريات العامة، ومرة أخرى لتوظيفه لصالحها في حال الضرورة، حين تنتج السلطة السياسية نفسها نوعًا من الخطاب الديني الأحادي، أو يدعي القائم عليها أنه يحكم باسم الله، وأن شرعيته مستمدة من السماء، في الوقت الذي يصور لأتباعه من المستنيرين العور أنه يكافح الاستبداد الديني، ويتصدى لأهله.
وحتى لو لم يدرك هذا التنويري الأعور كيف تحول إلى مفعول به، فإن الاستبداد الديني هو أحد مظاهر الاستبداد السياسي، فالأخير هو الذي حرف الأديان عن مقاصدها الحقيقية، وحولها إلى أيدولوجيات لخدمة مساره، حدث هذا في اليهودية والمسيحية والإسلام، وغيرها من المعتقدات والديانات عبر تاريخ البشرية جمعاء.
ومهما واجه التنويري الأعور مؤسسة أو فكرة دينية مستبدة أو رجعية، في ظل سلطة سياسية مستبدة، فلن يحقق شيئًا ذا قيمة، حتى لو كان مخلصًا لرؤية أو تصور يراه مستنيرًا. أما إذا كان متلاعبًا، أو مخلصًا لمصالحه الشخصية، يسعى إلى الشهرة أو الثراء أو النفوذ الاجتماعي، فليعلم أن الناس سيكشفونه عاجلًا أم آجلًا، وسيرونه مجرد دمية تحركها أيدي أصحاب القرار، ويرسمون لها المسار، وبالتالي سيذهب كل ما يقوله أو يفعله هباءً منثورًا، ويضيع بلا جدوى.
أما التنويري الأحول، فهو الذي يكرس جهوده لانتقاد تصور ديني واحد، دون النظر إلى الأمر في سياق مقارن شامل. ولو فعل ذلك، فقد يكتشف أن ما يواجهه، نصًا وخطابًا وتجربة، قد يكون الأفضل، وأن الأجدر به أن يعمل على إصلاحه خطابًا وممارسة، بدلًا من هدمه، الذي يدخل المجتمعات في متاهات الضياع، ويفقدها ما يحمله الدين، في صورته النقية أو طريقه المستقيم، من تعاليم سامية، ومنظومة قيم إيجابية، وسعي إلى غاية نبيلة تتمثل في الاكتمال الروحي، والسمو الأخلاقي، والخيرية أو النفع العام.
الأجدر بهذا "المستنير الأحول" أن يتدبر قول السيد المسيح، عليه السلام: "لماذا تنظر إلى القشة في عين أخيك، ولا تبالي بالخشبة في عينك؟ بل كيف تقول لأخيك: دعني أُخرج القشة من عينك، وها هي الخشبة في عينك أنت؟ يا مرائي، أخرج الخشبة من عينك أولًا، حتى تُبصر جيدًا فتُخرِج القشة من عين أخيك." وقول الرسول محمد، عليه السلام: "يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه".
وإذا كان نقد معتنق دين لدين آخر قد يثير حساسيات في مجتمعات مختلفة أو طائفية، فليطلب المسلم مثلًا، إن كان تنويريًا حقًا، من أصدقائه التنويريين الذين يعتنقون المسيحية أو اليهودية أو غيرهما أن يكونوا كذلك بالنسبة لنصوص وخطابات وتجربة أديانهم ومذاهبهم.
وعلى الجميع في كل الأحوال أن يفرقوا بين الدين نفسه، وبين تاريخ معتنقيه وتجاربهم الحياتية، وما صنعته من أفكار ورؤى، هي في الغالب نتاج للمصالح الدنيوية، حيث البحث عن الثروة والسلطة والمكانة، أكثر منها نتاج للدين نفسه.
وليكن دافع هذا الصنف من التنويريين في هذا هو تبصير الناس جميعًا، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، أو إدراكهم التأثير المتبادل للأفكار والتأويلات والتفسيرات النازعة إلى الاستبداد باسم الدين، بين الأديان جميعًا، أو لتأويل النصوص نفسها وتفسيرها لتخدم مسعى دنيويًا بحتًا، سواء بإنطاقها بما لم تقله، أو الإفراط في تأويلها، الذي قد يخرج بها عن المقصد الأسمى للدين نفسه.
أما التنويري الأعمى، فهو الذي يحبس نفسه في برج عاجي وينتج أفكارًا يسترزق منها، لا صلة لها باحتياجات المجتمع الحقيقية، بما في ذلك حاجة الناس إلى الدين نفسه لما فيه من روحانية أو قيم أخلاقية أو فعل الخير، ولا يتأمل في النتائج التي آلت إليها التجارب البشرية التي حاولت إقصاء الدين تمامًا عن الحياة، والتي خسرت فيها البشرية الكثير، ولا يطلع على ما يحدث الآن حتى في الغرب نفسه من مراجعة لهذا التصور أو المسلك الخاطئ، فالمطلوب، عند الأغلبية، هو نبذ الاستبداد أو الخرافة باسم الدين، وليس نبذ الدين نفسه. وحتى الذين يديرون ظهورهم للأديان كلها، بل للسماء نفسها، نجد أن ما يؤمنون به يتحول إلى نسق متماسك أو دين جديد.
إذن، ليس المطلوب أن يتم أي تنوير بمعزل عن تطلعات الناس إلى الحرية والعدالة والكرامة والاكتفاء والكفاءة والمساواة، ولا بمعزل عن استخدام التفكير العلمي، والنظر إلى التصورات الدينية والتقاليد والأعراف الاجتماعية في سياق الموازنة والمقارنة، ومعرفة الفروق بين الذاتي والموضوعي. هذا هو ما يؤمن به "التنويري المبصر" ويفعله، ويصر عليه وسط ضجيج التنوير الزائف.